الأحد، 24 يونيو 2012

آخر آلة




تغريبة الهبة وكيف تحوّلت من غالية إلى ضائعة وقد جاءت بإسم  : آخر آلة

      الهبة الغالية  

إلهـي   وهـبـت  الأنـــام  عـقـولا
         أضاءت  ظلامـاً  وشـقّت سبـيلا
يروّي  نداهــا  عطاشى  القـلوب
         ويجلو   صداها   ويشـفي  غليلا
عطـاء   مليكٍ    كريمٍ    جـليــل
         فجـاء    عطـاءً   كريـمـاً  جـليـلا
كأجـمل  ما  في  طبـاق  الوجود
         وهل من جمالٍ يضاهي العقولا ؟
       
      بلـى ! فلهذه الهبة . . التي هي أفضل هبات الله على الإطلاق وأجلها . . قصة تدعى "آخر آلة" نسوقها بالمناسبة  ,لما ظـلّ الشيء بالشيء يذكر ، دفع بها أعجب وأغرب خبر سمعته في حياتي...بالحري أغرب "صرعة" سميت بـ  معرض العقول :
 ومـن باب شكر المولى على نعمه الكثيرة ، احببت ان اشرك معي بمعرفة هـذا  النبأ الثمين من لم يسمع به . . إذ المعلوم أنه : " بالشكر تدوم النعم "
  وله ان يتصور ، اذا كان الخبر غريبا بحد ذاته ، ما سيكون حاله اذا حـام حول العقول وهي التي امرها كله عجب مذ قال الناس فيها انه عند ما وزعها الله تعالى عليهم كانوا نياما فلما صحوا وجدوها جزءًا من كيانهم فرضي كل منهم بنصيبه منها وان ذلك كـان بخلاف الرزق الذي وزع عليهم في صحوتهم  فلم يرض احد منهم بما قسم له !
    نعود الى النبأ ، وقد قصه علي احد الأصدقاء الخلص ، بحماس مثير ، وكأنـه اراد ان يفهمني أنّـنا في فـنّ الابـداع  (ابداع الصرعات ) ما زلنا  على مستوى رفيع ، قـال :
      اقـام الناس معرضا عالميا للعقول البشرية  حوى منها من كل ما هبّ ودبّ - إن جاز التعبير -  في ماضي الزمان وحاضره . . بـمـختلف اقطار العالم . من عقول المشاهير الذين تركوا بصمات عقولهم خالـدة  على الدهر. . الى عقول المغمورين  من  الناس  الذين  عاشوا  على  هامش  الحياة وبادوا دون أن يبقـى لهم ، أو لعقولهم ثـمـة أثر .
لم يكن المعرض خاصا باستعراض هذه العقول فحسب ، بل وسوق تجارية  لها ، حيث كـان  باستطاعـة أيّ  انسان  ،  من الزائرين ، ان يشتري العقل الذي يعجبه منهــا ويـذهب بـه الى حيث يشاء  مثلما يقتني  المعجب بالفن لوحة زيتية . . وما عليه بأكثر من  ان  ينقد  الثمن . .
  ثم حدث ، في مجرى حديـثـه . . ما كدت اصعق له حين قال , بزهو وافتخار كـبـيـريـن : ان العقل العربي كان اثمن العقول المعروضة على الاطلاق . . فواحد منها كان يزيـد ثـمـنـه عن ثمن بضعة آلاف من العقول الأوروبية والأميركـيـة مجتـمـعـة !
    كنت اعرف الكثير عن مفاخرنا وزهونا على الناس قاطبة , حتى بجهلنا..وقد عبر شاعرنا عن هذا الاستعلاء على الآخرين ، لما قال بـأنّـنـا :
   "  أعز بني الدنيا وأعلى ذوي العلى 
             وأكرم من فوق التراب ولا فخر "
    ثم الـم يقل المثل "عز نفسك تجدها !" ، وعزها - في مفهومنا - فاخر وباهِ بها الرجال أي بشـكل أبـعـد ما يكون عن إكـرامـهـا بالابـتـعـاد بها عن مواطن الزلل . . . وتـعـقـب صالـح الأعـمـال !
 قلت لقد عرفت بالكثير من هذه الخلال المحببة.. والمستنكرة ! لكن معرفتي كلها لم تصل الى ما يقرب من هـذه  الدرجة ! الأمر الذي جعلني انصرف بتفكيري الى نفسي أسـر اليها وأهوّن الأمر عليها وأقول :
 - صحيح لم يكن هذا كله داخلا في حسابك ، لما تعرفينه عن عنجـهـيـاتـنـا وتبجحنا . . إلاّ انّ  هنا دخل شيء من شـهوة الانتقام من الأميركيين والأوروبـيـين مـعـا ! فإذا عـزّ عـلـيـنـا ذلك  بالحسام  فليس اقل  من ان نبتغيه  بالكلام  . وهـذا اضـعـف الأيـمـان . .  قلت لمحدثي وقد بلغ بي التعب , عائدا بالسؤال : ثم ماذا ؟
   لكن  الصديق - وقد لاحظ  وهو الذكي . . , اشفاقي من مقوله - تابع حديثه  بعفوية لا حـدّ لـها . وكأنه هو ايضـا كان يـحدث نفسه ، موجها كلامه إليّ : ستعلم بـعـد قليل أيـنـا الصـدي !
من  تلك  السوق ( قال )  يمكنك  ان تعود  الى بيتك بدريهمات  معدودة بعقل  اديسـون او نيتشـه او  عقل اينشـتاين . . وأمثال هـؤلاء ! أي بتراب المال بينما كان يـلـزمـك لشراء عقل عربـي واحد ملايين الدولارات ! !
عند هذا الحد عدت لنفسي أسر لها : لقد جنّ صديقي ولم يترك للمعقول مكانا . . بـيـنـمـا تابـع حديـثـه غـير مبـال ، قائلا يسأل بـي :
       - فهـل تعـلـم الأسـباب  ؟ ( كـأن قـد  أبقى  لـي شـيئا من العلم !) وكـان قد  شـرد بي الفكـر..الى غــلاء الخيول العـربـيـة  في الأسـواق العالـمـيـة ، باحـثـا . . لعل ثـمـة علاقـة  بـيـنـهـا وبين  العقول  التي من جنسها . .
      - أنا أعلم ! . .( قلت مجيبا) ، معـاذ الله ، فعليك أن تسأل الذي عنده علم الكتاب ، الجني الذي احظر الملكة بلقيس لسـيدنا  سليمان  قبـل ارتـداد طرفـه الـيـه !
     ضحك صديقي . . وكأن داخلته الرأفة بي ، ومضى يشرح ، كاشفا السرّ عن لب قصته ، ويقول مهونا عليّ :
      - إن الأمر أسهل بكثير مما تظنّ . . إذ  الناس (الآخرين) قد  انهكوا عقولهم  لوفرة  اسـتعمالـهم لها واستنفدوا  كل ما لديها من قوة  ، ولا سيما  المفكرين والمخترعـين  ومن لفّ لفّهم  فإن عقول هؤلاء صارت كعود اكله الدود والفناء أو كقطعة من الخشب نخرها  السوس  فلم تعـد تصلح لغـير الدفـن . . كأي جـثّـة فارقتها الحياة ! بينمـا بقيت العقول العربية بغير استعمال . . أبكـاراً ، كعذارى الجنان ! "لم يطمثهن  انس (من قبل أو بعد) ولا جان . . " فكنت  تراهـا أفضل ما في العرض على الإطلاق . بشحمها ولحمها والشمع الأحمر ختامها. . وكأن كل  منها  يهيب  بك , قائـلا :
   " عشرة مليارات من الخلايـا الحيـة العامـلـة والذكـيـة فـي خـدمـتـك ! "
   ذلك لأنّ  العقل  هو  آخـر آلـة يـفكر العربـي باسـتعمالـها !
                             *   
  كنت  قد وضعت  هذه القصة  على لائحة أخطائي الناجـمـة عن تسرعي واستعجالي فـي الحكم  على  الأمور  قـبل تفهمها..تسرعا  لا  يعقبه غير الندم ! لما يبلغ بي حد الشطط . . ابدأ بقـراءة  القصة , اية قصة ، فيخيل  لي ان  قد  فهمتها من عنوانهـا فأصيب حينا ، وأخطئ احيـانا !  واستمع لحديث محدثي  فينتابني نفس الشعور ، أي أحسب اني  فهمت من بـدايـة حديـثـه ما يريد ان يقول ! فأهـم بأن أقطع عليه تـتـمـتــه. . وقـد أفعل بحجة الحرص على الوقت ( المضيع ) وهذا على أي حال ليس من الأدب في شيء  !  بـل هو يدخل من باب قولهم بأن " آفـة العقل العجب" 
ذيل الآلـة . .
      بقي   للقصة  ذيل ! اخترتـه لها ، كتقديم  اعتذار عمّا صدر منّي ، هو من اجلّ مـا خلف لنا التراث من آثـار... مذ ظل - وقد مرّ - الشيء  بالشيء  يذكر :
  انــه في يوم من ذات الأيام ، توفي احد البخلاء ، ففرح  لوفاته جميع من في الأرض  (ارض ذلك البخيل ، وكان صاحب مزرعة كبيرة) : خدمـه وحاشيته و اعوانه ، حتى آل بـيـتـه .  فكأنـه كـان غيمـة وحشة وانقشـعت !
      وبعد انتهاء مراسيم الدفن ، جلس الأتباع والخدم جميعا امام  كبير ابناء الراحل - غير المأسوف عليه..- يستمعون الى اوامره ووصاياه  تحدو بهم الآمال العراض وتبشر بتحسن الحال  ومن ثم مضى القيم الجديد  يقول في اول امر اصدره :
      -  لن اسمح لأحد ، بعد اليوم ، أن يذكر والدي امامي بخير. . او يترحم عليه !
فبهت  القوم  لذهاب وليهم الجديد الى ابعد بكثير  مما كانوا يحسبون ، واقبل بعضهم على بعض يتساءلون ، وقد ذهبت بهم الظنون كل مذهب . . !  الى ان قال قائلهم :
    ـ لقد ذهب الفقيد ، يا مولانا ، بطريق الأمم ، ومن ثم فقد افضى الى ما قدم ، الاّ انّنا لم نفهم اسباب منعنا عما ألفناه عبر الدهـر. . من جانب سيدنا  اطال اللّه بقـاءه !
فأخرج للتو لهم من درج جانبي  لطاولة . . تكاد تطاول الدهر عمرا ، كان جالسا وراءهـا : قالـبـا من الجبن ضـاربا ضربا عريضا في القدم ، وقال :
  - اتنظرون الى هذه الثلمة فيه ، واشار الى خط في وسطه مستطيل بعض الشيء ، وكأنـه حزّ بمنشار او حفّ بمسمار  ثم اضاف :
  - هل تعرفون اسبابها ؟ وقبل ان يجيب احد على سؤاله ، تابع يقول :
 - انا انبئكم  ان كنتم لا تعلمون ، لقد كان ابي في حياته متلافاً للمال  كثير الأسراف ، واللّه سبحانه لا يحب المسرفين ,وامّا الدليل الحي على اسرافه فهي هذه الثلمة التي ترون ، حيث كان يحك رغيفه فيها  عامدا متعمدا ، في صباح كل يوم ، فكان ، ولا حول الاّ بالله ، ان احدث هذه الثـلمة  وجلب  الغمّة  وكان بها من المبذريــن  الذين قال تعالى بشأنهم  { انّ المبذرين كانوا اخوان الشياطين ..} ومن كان اخا للشيطان لا يحبه  الله ومن الواجب لعـنـه  فالعنوه يلعنه اللّه !
  صعق القوم لدى هذا الايضاح . . الى ان عاد قائلهم يستفسر القيم العتيد ويسأل بـه  مـن جـديـــد :
-        وأنت  يا  مولانا ! ماذا سـتفعل ؟ ألـن  تحك
رغيفك فيه مثلما كان يفعل والدك ؟
  فأجاب على قول السائل باقتضاب قائـلا :  بـلـى . . ولـكـن مـن بـعـيـد !
                           -   -
 هـذه القصة  لأبي عمرو الجاحظ ، نقلناها بتصرف قليل ، لمناسبتها للموضوع الذي نخوض فيه ، فهي من الأدب الحي الذي يناسب كل زمان ومكان ، إذ العبرة منها تعاد وتتكرر , على مر الأجيال ، وتتخذ مختلف الأشكال والصور. . فهي هنا تعلمنا كيف يستعمل الكثيرون من ابناء قومنا عقولهم . . استعمال قيّم الجاحظ ، لقالب الجبن .
 يشـيرون إلـيـهـا مـن بـعـيـد !
   







الثلاثاء، 19 يونيو 2012

التعليق: خليل العقدي أو خليل محمد عقده - من تاريخ الشعب المختار

التعليق: خليل العقدي أو خليل محمد عقده - من تاريخ الشعب المختار

الرسائل القديمة (المدونات) معظمها تظهر (فيما بعد) أحرفها وكلماتها في غير مواضعها! ما العمل لتنسيقها والتمكن من ترتيبها مرّة أخرى ؟مع تشكراتي